واقع مظلم:
يُعد النزاع في اليمن من بين أكثر النزاعات تدميراً منذ الحرب الباردة، وفق تصورات (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي). فقد كانت آثاره غير المباشرة هائلة؛ مما أعاق التنمية البشرية لأكثر من عقدين من الزمن . وكان أثر النزاع مدمراً بشكل خاص بسبب سياق التنمية في البلاد قبل اندلاع النزاع، وبسبب الطرق التي أثر بها النزاع على أنظمة التنمية.
ووفق التقييم الديناميكي للاحتياجات من قِبل البنك الدولي لعام 2021م، تسبب النزاع في إلحاق أضرار بربع أصول شبكات الهاتف المحمول، وأكثر من ثلث المرافق التعليمية، و40% من المرافق الصحية، و40% من الأصول السكنية، و40% من أصول المياه والصرف الصحي والنظافة، وأكثر من نصف أصول قطاع الطاقة.
وفي حال استمر النزاع حتى عام 2030م، فإنه سيصبح أكثر تدميراً؛ وقد يصل عدد الوفيات إلى 1.3 مليون شخص، في حين أن أكثر من 70% من تلك الوفيات ستكون ناجمة عن أسباب غير مباشرة، ومعظم هذه الوفيات غير المباشرة ستكون لأطفال دون سن الخامسة. وبحلول عام 2030م سيكون المعدل وفاة طفل واحد كل خمس دقائق مقارنة بوفاة طفل دون سن الخامسة كل 9 دقائق في تقديرات 2021م، ووفاة طفل كل 12 دقيقة تقريباً في تقديرات 2019م. ومن المحتمل أن يُصنف 22.2 مليون شخص ضمن الفئات الفقيرة وأن يعاني 9.2 ملايين شخص أيضاً من سوء التغذية في 2030م.
وفي هذا السيناريو، فإن عدم القدرة على الوصول إلى الغذاء والمياه والرعاية الصحية سيؤدي إلى وفاة ما بين 45,000 و62,000 شخص إضافي سنوياً بين عامي 2022م و2030م.
وخسرت البلاد مبلغاً تراكمياً قدره 126 مليار دولار أمريكي من الناتج المحلي الإجمالي منذ عام 2015م وحتى 2020م. وتتراوح التكلفة التقديرية لاحتياجات استعادة البنية التحتية الأساسية بين 20 و25 مليار دولار أمريكي على مدى خمس سنوات.
غير أن التعافي الناجح سيتطلب أكثر من إعادة بناء البنية التحتية المتضررة. ويتمثل أحد هذه التحديات في معالجة انعدام الأمن الغذائي المستمر في اليمن. وكانت البلاد قبل النزاع تعتمد على الواردات لتلبية ما يقرب من 90% من احتياجاتها من الغذاء.
والعامل الرئيسي المحرك لانعدام الأمن الغذائي لا يتمثل في عدم توفر الغذاء في البلاد، بل في القدرة على تحمل تكاليفه؛ نظراً لأن جميع احتياجات اليمن من المواد الغذائية تقريباً يتم استيرادها من الخارج.
أزمة السياسات النقدية:
يؤكد البنك الدولي أن من بين جميع التحديات الاقتصادية التي يفرضها الصراع في اليمن هو تباين السياسات النقدية بين الفريقين المتصارعين، وتدفقات النقد الأجنبي، وتمويل عجز المالية العامة بزيادة المعروض من النقود من أهم الآثار التبعية الناتجة عن الصراع.
وفي مواجهة الضغوط المالية المتزايدة التي تفاقمت بسبب انهيار إنتاج النفط وصادراته في عام 2015 (وما ترتب عليه من فقدان عائدات النقد الأجنبي)، لجأت الحكومة المعترف بها دولياً إلى تمويل عجز المالية العامة بزيادة المعروض من النقود. وسرعان ما أفضى هذا إلى استنزاف الاحتياطيات من النقد الأجنبي، وهو ما جعل البنك المركزي اليمني يتخلَّى عن الدولار كعملة مرجعية بحكم الواقع، وأدَّى ذلك إلى تدهور أوضاع الاقتصاد الكلي في خضم ارتفاعٍ سريع للتضخم وانخفاضٍ في قيمة العملة. ومع استمرار الصراع، تحوَّل اقتصاد اليمن أكثر فأكثر إلى اقتصاد مزدوج بحكم الواقع، حيث انقسم بين مناطق أطراف الصراع؛ الأمر الذي أدَّى فعلياً إلى قيام نظامين وطنيين منفصلين كما يتضح ذلك في الاختلافات في أسعار الصرف بين المنطقتين.
وفي الشكل التالي تغيرات سعر العملة المحلية خلال 5 سنوات (تقديرات البنك الدولي 2023م):
كان لهذه الظروف، على صعيد الاقتصاد الكلي، تداعيات كارثية على الاقتصاد الجزئي. ومع أن متوسط تكلفة المواد الغذائية الأساسية زاد بصورة كبيرة في كل مديرية منذ عام 2015، فإن تباين السياسات النقدية أوجد اختلافات اقتصادية، مثل تباين الأسعار بين مناطق أطراف الصراع.
ووجدت (مسوح استقصائية هاتفية عالية التواتر) أن نسبة الأسر اليمنية ذات الاستهلاك الضعيف أو الحديّ من الأغذية، ونسبة الأسر ذات الأداء المتدني أو المتوسط؛ على (مؤشر إستراتيجية القدرة المنخفضة على التكيف)، زادت بمقدار 11 نقطة مئوية و10 نقاط مئوية على الترتيب بين يوليو وأكتوبر 2018م. كذلك زادت نسبة الأسر ذات الاستهلاك الضعيف أو الحديّ من الأغذية، ونسبة الأسر ذات الأداء المتدني أو المتوسط، على (مؤشر إستراتيجية القدرة المنخفضة على التكيف)، بمقدار 7 نقاط مئوية بين مارس 2020م وفبراير 2021م. ويُقدَّر أن عدد اليمنيين الذين وجدوا صعوبة في الحصول على الغذاء بلغ مليونين في 2021م.
وحذر البنك الدولي من أن الضبابية لا تزال تكتنف آفاق المستقبل القريب لليمن، وأن الطريق إلى تحقيق نمو قوي وشامل للجميع ضيق للغاية، ولكن ثمة ما يبعث على بعض التفاؤل المشوب بالحذر.
إلا أن البنك يستدرك أن ثمة أسباب تدعو للتفاؤل المشروط، وأحد أفضل الأصول الكامنة في اليمن هي طبقة رواد الأعمال الذين استطاعوا اجتياز عقودٍ من الاضطرابات السياسية والاقتصادية. وتحيط باليمن أسواق مرتفعة الدخل وتجمعها به الروابط والوشائج الثقافية، كما أن هذه الأسواق تستورد معظم سلعها الاستهلاكية. وإذا توفرت مقومات السلام والاستقرار والاستثمارات الكافية، وتضافرت العوامل الخاصة بوجود قطاعٍ خاص قادر على الصمود وطائفةٍ متنوعة من أسواق الصادرات التي تتوفر لها مقومات الاستمرار، فقد يسهم ذلك في تحقيق تعافٍ عريض النطاق بقيادة قطاع التصنيع الزراعي وقطاع الصناعات التحويلية الخفيفة في اليمن.
ويرجح البنك أن تستمر حالة التجزؤ الاجتماعي والسياسي في فترة ما بعد انتهاء الصراع. ومع أن التوصل إلى اتفاق سلام سيكون خطوة حاسمة نحو التعافي، فإنه لن يكون كافياً للعودة إلى استقرار الاقتصاد الكلي.
وبالإضافة إلى انتهاء الحرب، ولاستئناف مسيرة النمو، سيكون من الضروري زيادة إنتاج الهيدروكربونات، وإعادة فتح مسارات النقل الرئيسية في البلاد، وتحسين الاندماج في أسواق التجارة الإقليمية والعالمية. وفي هذا السياق، سيكون تعاون المجتمع الدولي ومساعداته واستمرار انخراطه في اليمن عاملاً حيوياً لتحقيق سلامٍ دائمٍ في البلاد.
أزمة المغتربين:
امتدت تداعيات الحرب في اليمن إلى استثمارات المغتربين وتحويلاتهم المالية التي تعد أهم مورد اعتمد عليه هذا البلد طوال سنوات الصراع السابقة. ويتزامن ذلك مع تدهور بيئة الاستثمارات وهروب رؤوس الأموال خارج اليمن الذي يشهد ارتفاعاً كارثياً في مستويات الفقر والبطالة والجوع.
وتوثق تقارير وبيانات حديثة انخفاض استثمارات المغتربين في اليمن في مقابل ارتفاعها في دول الاغتراب مثل السعودية التي تستوعب أكبر عدد من المغتربين اليمنيين، إذ حلّ اليمنيون بالمرتبة الثانية بعد المصريين في عدد تراخيص الاستثمار في السعودية خلال الربع الأول من العام 2024م، بحسب تقرير (راصد) عن الاقتصاد والاستثمار السعودي الذي تصدره وزارة الاستثمار السعودي.
ووصل إجمالي عدد تراخيص الاستثمار الممنوحة في السعودية، خلال هذه الفترة، 3175 رخصة. حصل اليمن منها على 346 تصريحاً أو ترخيصاً استثمارياً، بعد مصر التي حصلت على 950 ترخيصاً. وجاءت الهند في المرتبة الثالثة 321 ترخيصاً، ثم سوريا في المرتبة الرابعة 180 ترخيصاً، وباكستان في المرتبة الخامسة 159 ترخيصاً.
ويتوقع أستاذ الاقتصاد في جامعة صنعاء، والمسؤول السابق في وزارة التخطيط والتعاون الدولي اليمنية، مطهر العباسي، ارتفاع أعداد التراخيص لمشاريع استثمارية لليمنيين في السعودية في حال استمرت وتيرة التراخيص بهذا الشكل، إذ من الممكن أن ترتفع إلى حوالي 1400 ترخيص خلال هذا العام، إضافة إلى الأعوام السابقة.
ويؤكد العباسي أن ذلك مؤشر واضح على وضعية البيئة الاستثمارية في اليمن ووضعية البلاد بشكل عام في ظل هذه الظروف الناتجة عن الحرب والصراع، وانتهاج الأطراف في صنعاء وعدن سياسات عبثية وتدميرية ضيقت الخناق على القطاع الخاص والمستثمرين ورؤوس الأموال الوطنية.
ويجمع خبراء اقتصاد، على أن اليمن أصبح بيئة طاردة للمستثمر اليمني، بسبب الحرب والسياسات الخاطئة تجاه القطاع الخاص التي تتبعها أطراف الصراع، مقابل محفزات وتسهيلات تقدمها دول أخرى تشكل ملاذا آمنا للمستثمرين اليمنيين.
ويضع رئيس مؤسسة المهاجر (منظمة أهلية يمنية)، مندعي ديان، ثلاثة أسباب لعزوف المغتربين اليمنيين في الخارج عن الاستثمار في بلدهم، أولها الاضطراب السياسي في اليمن وعدم وضوح الرؤية لمستقبل البلاد وتأثير ذلك السلبي على الاستثمار. ويتمثل السبب الثاني في التسهيلات التي قدمتها دول المنطقة التي تستوعب مهاجرين ومغتربين يمنيين، إذ يشير هنا إلى تسهيلين اثنين، أحدهما يتعلق بالاستثمار، والثاني بتسهيل عمليات الإقامة والتجنيس. ويرتبط السبب الثالث بمشكلة انقسام الريال اليمني والتداول النقدي، وهنا يشدد رئيس مؤسسة المهاجر اليمنية على ضرورة ضبط سعر صرف العملات الأجنبية ووقف تدهور العملة المحلية لتشجيع الاستثمار في كل من صنعاء وعدن.
أزمة المياه:
ويواجه اليمنيون أزمة خانقة في توفير المياه، حيث تسببت الحرب بتوقف مشاريع المياه؛ ومع أن بعض المنظمات تدعم مشاريع المياه في بعض المناطق، إلا أنها لا تغطيها كلها.
وفي مارس الماضي أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) أن 17 مليوناً و400 ألف يمني بحاجة إلى مساعدة للحصول على المياه.
وتشير إحصائيات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، وافتراضاتها بشأن النمو السكاني، إلى أنه من المتوقع أن يزداد الطلب السنوي على المياه في اليمن زيادةً تدريجية بنسبة تصل إلى 120% بحلول عام 2050م.
وكشفت تقارير دولية أن نحو 4.5 ملايين طفل يمني يعيشون في منازل لا يتوفر فيها مصدر مياه ملائم. وعدم حصول معظم اليمنيين على مياه صالحة للشرب تسبب في انتشار العديد من الأمراض والأوبئة وفي مقدمتها الكوليرا والملاريا، حيث حذرت الأمم المتحدة.
ويقول خبير الموارد المائية المهندس، مروان الوجيه: إن اليمن من أكثر الدول فقراً مائياً عالمياً، وأكثر الدول العربية شحاً في المياه وتحت خط الفقر المائي، فمثلا تبلغ حصة الفرد من المياه 120 متراً مكعباً سنوياً مقارنة بالمعيار العالمي وهو 1000 متر مكعب سنوياً.
وأشار إلى أن هذا ناتج عن التغيرات المناخية التي يُعتبر اليمن من أكثر الدول المتأثرة فيها، بسبب غياب الاستراتيجيات لمواجهة هذه الظاهرة. ثم زاد الوضع سوءا بسبب الصراع الجاري في البلد الذي أدى إلى انهيار البنية التحتية. بالإضافة إلى أن الانفجار السكاني الحاصل وهناك ضغَطَ على المصادر المائية، وهذا بدوره أدى إلى انخفاض حصول الفرد على الكمية الكافية والنظيفة من المياه.
أزمة النقل:
وتسببت الحرب في ارتفاع تكاليف وأجور النقل، حيث وصلت نسبة الارتفاع إلى ما يقارب 800%؛ وهذا ما ساهم في انحسار عدد المسافرين بين المدن بسبب ارتفاع التكاليف.
كما أثرت الحرب وتداعياتها على ارتفاع تكاليف نقل البضائع؛ مما أدى إلى ارتفاع كبير في أسعار المواد التموينية والغذائية والاستهلاكية.
وثمة أسباب عدة ساهمت في ارتفاع تكاليف النقل، وأبرزها الارتفاع المهول في أسعار الوقود والمشتقات النفطية.
هذا الارتفاع المهول في أسعار المشتقات النفطية رافقه قطع الطرقات الرئيسية بين المدن، ما جعل الأهالي يضطرون إلى عبور طرق فرعية بديلة ووعرة، وضاعف هذا الأمر من طول المسافة، ومشقة السفر فيها، وبالتالي زيادة أجرة السفر وارتفاع تكاليف النقل.
ومن التحديات التي تواجه قطاع النقل في اليمن تردي الطرق، حيث يشير التقرير الفني الصادر عن صندوق صيانة الطرق في عدن، في ديسمبر 2019م، إلى أن نحو 50% من شبكة الطرق الرئيسية التي تربط بين أنحاء المدن اليمنية بحاجة إلى صيانة.
وأوضحت بيانات صادرة في يونيو 2021 عن الجهاز المركزي للإحصاء أن تكاليف أجور النقل البري المحلي ارتفعت، في نهاية ديسمبر 2020م، بنسبة 208% مقارنة بديسمبر 2013م؛ نتيجة انعدام الأمن، والأضرار التي لحقت بالطرق الرئيسية الرابطة بين المدن اليمنية، ودفع مبالغ عند نقاط التفتيش وسلك طرق بديلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
* تقييم أثر النزاع في اليمن.. مسارات التعافي. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، 2021م.
* تقرير راصد الاقتصاد والاستثمار السعودي (الربع الأول من 2024م). وزارة الاستثمار السعودية، 29 مايو 2024م.
* البنك الدولي:
https://www.albankaldawli.org/ar/country/yemen/publication/yemen-country-economic-memorandum-2023
* مدونة البنك الدولي:
* صحيفة (الشرق الأوسط)، 30 مايو 2024م:
* صحيفة (العربي الجديد)، 6 يونيو 2024م:
* صحيفة (العربي الجديد)، 2 يوليو 2024م:
* صحيفة (العربي الجديد)، 15 يوليو 2024م: